بابَ السماءِ.....الثامنة
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
بابَ السماءِ.....الثامنة
جاءَ ليلُ الشتاءِ قبل موعده, يغرسُ أنيابه فى وحدةِ أشجان التى تُهدهدُ طفلتها لتنام, تُطبقُ الصغيرةُعلى ثدى أمها.... ترشفُ قطراتِ الأمان, وتداعبُ بيدها الثدى الآخرَمتوسدةً ذراعها, ثقلتْ أجفانُ الصغيرةِ....وراحت فى نومٍ عميقٍ, أحكمتْ أشجانُ غطاء صغيرتها وانسلت برفقٍ, تبحثُ عن شئ ٍيخرسُ النبحَ المكتومَ فى أعماقها, لا ظلٌّ يأويها, ولا ملجأ إلا الله يعزيها, ولا أنيس لوحدتها يعينها على قهر ليلٍ منقطعٌ تياره, أمسكت بدميتها....جلست على أريكتها المقابلة لمرآتها, ذكرها صوتُ المطرالعابث بزجاج النافذة الحنين إلى الماضى, وتذكرت بيتَ الطينِ ورائحة الطين عقب زخات المطر, حين كانت تستمتع بمشاهدة حباته تصافح وتحيى وتلسع وجنتيها, وكيف كانت تعانق الأرضُ أقدامَها برفقٍ عقبَ الهطول؟ كان الشوقُ فى عينيها يسابق اللحظة, وتعيش فى غدها المأمول, فتفتح اليد لتمسك بقطراتٍ وتُقبِضُ عليها وكأنها تمسك بخيط سعادتها, أو تقبضُ على فارس ٍ ملثمٍ لم تتضح ملامحه بعد, لكنها كانت ترسمه بدقةٍ متناهيةٍ وكأنها تعرفه فى عالم الذرِّ, وكانت تناجيه فى دميتها التى لم تفارقها مناجاة الحبيب, وتبثه شوقاً ينتظر التجسيد والتنفيذ فى واقع مأمولٍ, تتذكر أشجان حين تحاول إحياء الرجولة فى دميتها بحركاتٍ لا تخلو من براءةٍ وحياءٍ, تكلمه..تنادى عليه...يُخيلُ إليها أنه يردُّ عليها بما تهوى...فيرقص قلبها طرباً, وتفيضُ عيونها بشوق ٍ مُكبلٍ بدلال الأنثى, وكانت تُغضبُ شاطرها الحسن أحياناً لتنتزع قُبلةً من جبينه تعرفُ أنها فى غير حِلتها وحلالهاعلها ترضيه, وتذكرت حين جاءيخطبها إنه قريبٌ قريبٌ من هذا الذى رسمته فى خيالها وكانت تناجيه فى خلوتها, بمجرد أن التقيا صار كلاهما كمن نشأ وتربى مع قرينه, يا لطف القدربقلبينا! ويارحمة السماءوشفقتها علينا! كانت تهمس إليه فيكملُ لها ما أرادت, وكانت عينُهُ تناجيها فتلبى طلبه كأنها دخلت إلى أعماق أعماقه, ذكرتها الدميةُ التى تتمنى فكاكاً من عبث أصابعها بحديثٍ همست به قائلة: حين أصيرُ سجينةَ قلبك الحسن.. وتصفدنى أوردتك...وتخلخلنى شراينك... وتجلدنى سياط شفتاك تريد مناجاة قرينتها.. ويلسعنى رضابك يفضح شوقك وتيهك... وأشتم غدراً من ذراعيك يطوينى, سأقول لك: هيا طفقاً لتمسحَ بالسوق والأعناق أرق وأعنف وأعذب القبلات.
وقبل زفافها قالت له: سأصيرُ جاريتك التى لا تعصى لك أمراً, وأبيتُ على صدرك أحصى أنفاسك ...وإياك إياك أن تسرق نفساً أوتضيعَ آخراً, لن أُخطأَ فيك ولن أملُّكَ, وسأظلُّ ألثم فاكَ لأرتوى وكلما ارتويتُ منك أظمأُ من جديد, كان الحسنُ يستمعُ إليها وهى تعزفُ على أوتارِ قلبه قيثارةَ عشق ٍ يظنها لا تنتهى, ثم ردَّ عليها قائلاً: لا أدرى من سيسرقُ من حنان الآخر أكثر؟ فالعشق سيدتى أنانىُّ النزعة ولا سقف له, ثم يردف...يا أنا.... كلانا سينهلُ من معينِ ورحيقِ الآخر إلى أن يأتى يومٌ تقتصُّ الحياةُ منا, فمن يشبعُ أولاً يودع الحياة تاركاً قرينه يعانى الظمأ بقية عمره.
انتبهت أشجانُ على وقع الكلمات....فهى المغبونة فى صفقة الحبِّ, نهل وشبع وتركها تُمسكُ بنفس دميتها التى كانا يتقاذفانها سوياً, وكانت شاهدةً على لحظاتِ السعادة التى لم تكمل شهرها السابع قبل أن تبتلعه إطاراتُ سيارةٍ هوجاءَ فقد قائدها الصبى سيطرته على مقودها لتُقتلُ الأحلام فى لحظة, وتُغتالُ لفظة بابا من مفرادات جنينها, واعجبا..! هى نفس الدمية ستشهد أيام حزنى وشجنى وأمسح بها دمعى, منك العون يا ربى, ألهمنى القوة ...امنحنى الإرادة على أن أحيا دون عون من أحدٍ سواك, صرخت بملء الأعماق....أعنى يا رب....ويضيقُ رحم العين عن احتواء الأحزان....تنسابُ العبراتُ لتهرب من حشرٍ فى مُقَلٍّ كَلْمَى....تسيلُ فى دعةٍ على خدٍّ أصابه ترملٌّ قبل أوانه, تصنع الدمعاتُ جُدداً وأخاديدَ سودٍ على وجناتٍ بيض ٍفتفصحُ وتفضحُ.....تفصحُ عن لوعاتٍ وآهاتٍ مكبوتة وابتلاء لا تقوى عليه, وتفضحُ أمةً غابتْ عن رجالها النخوةُ والشهامة, قالت: إنَّ كلَّ عانسٍ وأرملةٍشرفٌ مبتذلٌ ضائعٌ فى جسد هذه الأمة, وجرح ٌسيظلُّ ينخر وينخر حتى يصيبَ صديده وقيحه الجميع, وسيحاسبُ ربى كل من يستطيعُ أن يمسحَ دمعةَ أرملةٍ وتوانى, أو كل قادر على ان يدخل بسمةً على قلبٍ عانس ٍفبخل أو جبن, نحن بعضُ سيئاتِ الآخرين وربما كبائرهم, فلنا الله وكفى....وما بين ميلاد الدمعةِ فى الاحداق ِوترقرقها على الوجناتِ, تُمسكُ أهدابُ العين ببعضِ العبراتِ تتدلى كقلائدَ, وكأن الكلَّ يعلنُ الحدادَ على وأد أُنوثةِ هذا الحى فى ريعانه, ويصيرُ لوقع الدمعة على الخدودِ صوت النعى لباقى الجسد, ليرددَ طقوس الحزن فى صمتٍ من رهب الفقد وغياب المعزون ولسعاتهم وعقابهم, آهٍ من دمعة أرملةٍ فى ليلٍ أبكم مصحوباً بجدران غُرفةٍ وغُربةٍ وقضبانٍ تُشرعُ, أهٍ من نبح القلوبِ وحسرتها وانصهارمادة الحياةِ فى أعماق الأنثى بفعل قيظِ مجتمعٍ لا يرحم, أهٍ حين تغيبُ شمسُ رجلٍ بأمانه فجأةً فينسلُّ من بين أصابع أنثاه وربيعها على غير وعدٍ وموعدٍ, أهٍ حين يشدُّ الأنثى خيطُ الليلِ الطويل ليلفظها فى هُوةِ الوحدةِ السحيقة, أو يرمى بها فى آتون وأنين الدمع, أهٍ من لسعةٍ دمعة محرومٍ يبكى على حرمانه تارةً, وعلى فقد من يعوضه حرمانه أُخرىوهم كُثرٌ, أه حين يكون فى مقدور الأيدى المساعدة وتبخل! أهٍ من وقع الثمارِ قريبة قريبة من الأرض البور, لها سياطٌ تلسع ودمعات ترتعش....بل ترتجف كارتجافِ الأنف واهتزازها متخلية عن بعض كبريائها لتعلنَ استسلاماً وترفعَ رايةَ موت النخوة فى أمة النخوة, أهٍ حين تبتلُّ الوسادةُ كل ليلة بعبرات تُنزفُ من جرحٍ يتسع ولا يبرأُ, أه حين تلتحفُ الأنثى وطفلتها بالليلِ لتُدقُّ النفوسُ وتُقهرُالوسائدُ, أهٍ حين يثقلُّ الجفنَ النومُ مصحوباًبعقابٍ لعوانس وأرامل وأيتام, هنا تصرخُ النفسُ فى أعماقها, فيصيرللنفس فضاءات بحجم الكون, ويزيد الصراخ ويتردد فتسمع الصدى فى جنبات النفس بعدد أهل الأرض, تحمرُّ العين تورماُ وألماً من فرط أحزانها, تشعر المسكينةُ أشجان أن الحزن والدموع يجعل لها تضاريس وتعاريج جديدة على خريطة وجهها, فهكذا الحرمان مهما تأخذ منه يزيد, بل يتضاعفُ ويكبر كمتواليةٍ ليس لها حدٌّ أخيرٌ, أثقل الحزنُ عيونها, جفت مآقيها, أطبقت العيونَ مرددة : يا رب...يا رب... يا رب, راحت فى غفوة على أريكتها ورأت فيما يرى النائمُ دموعها التى ذرفتها تكبرُ...تزيدُ...تثقلُّ...فصار لها لونُ اللؤلؤ وحجمُ الصخور, ثم عرجت لأعلى...لأعلى...تردد بصوت يملأُ الكون...يا رب... يا رب ...حتى طرقتْ....
أحمدالحارون- عضو جديد
-
رقم العضوية : 36
عدد المساهمات : 20
تاريخ التسجيل : 20/02/2010
رد: بابَ السماءِ.....الثامنة
الكاتب احمد الحارون
وليلة فى حياة ومواجع ارملة --وكم من ارامل ومطلقات لايمر عيهم ليلهم السرمدى
وكم من تقاليد باليه تقف عثرة فى طريق سعادتهم
عبر قلمك بأسلوب قصصى رائع عن هذه الليلة بجميع احاسيسهم حتى الدمية
وظفتها بمنتهى الروعة لخدمة القصة
شكرا لك كاتبنا الفاضل على قصتك الرائعة
محمد لطفى- عضو فضي
-
رقم العضوية : 11
عدد المساهمات : 390
تاريخ التسجيل : 10/02/2010
رد: بابَ السماءِ.....الثامنة
أخي الفاضل الأستاذ
أحمد الحارون
قصة ولا أروع صيغت في قالب نثري جميل لم يخل من التعبيرات البلاغية البديعة
ولا من الصور المجازية التي كثيرًا ما تغلب على طابع النصوص الأدبية
مع الحرص على عدم التفلت من المقومات التقليدية للأدب القصصي
أما عن الأحداث فهي أحداث ينفطر لها القلب
وكم راق لي توصيفك البليغ لدواخل نفس مزقها الحرمان وألمها الفقد
شكرًا لإمتاعنا بهذا السرد الأنيق وهذا العمل الأدبي الجميل
وتقبل خالص احترامي وتقديري
مع عاطر التحايا وأطيب الأمنيات
آمال
أحمد الحارون
قصة ولا أروع صيغت في قالب نثري جميل لم يخل من التعبيرات البلاغية البديعة
ولا من الصور المجازية التي كثيرًا ما تغلب على طابع النصوص الأدبية
مع الحرص على عدم التفلت من المقومات التقليدية للأدب القصصي
أما عن الأحداث فهي أحداث ينفطر لها القلب
وكم راق لي توصيفك البليغ لدواخل نفس مزقها الحرمان وألمها الفقد
شكرًا لإمتاعنا بهذا السرد الأنيق وهذا العمل الأدبي الجميل
وتقبل خالص احترامي وتقديري
مع عاطر التحايا وأطيب الأمنيات
آمال
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى