زينة الحياة الدنيا : قصة قصيرة
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
زينة الحياة الدنيا : قصة قصيرة
حدثنا الراوي يا سادة يا كرام … فقال
يحكى أن رجلا امتن الله سبحانه بفضله أن يكون جارا لأخلص حبيب وأعظم جار وأكرم رفيق صلى الله عليه وسلم، حيث إنه كان من أهل طيبة التي طيب الله هواءها وماءها وأكـُلها وطاب ساكنها وقاصدها .
على الرغم من فضل الله على الرجل الذي امتن عليه لا بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم وسكنى المدينة المنورة، بل بزوجة وشريكة حياة هي الحياة الدنيا وحسنتها، فقد اجتمع لهذه الزوجة من الفضائل ما لم يجتمع للكثير من مثيلاتها ، فكانت حافظة لكتاب الله تقية نقية عابدة ، لم يسؤها في حياتها شيء إلا أن ترى زوجها بعيدا عن الاستقامة لا يرعى لفضل الله عليه بجيرة الرسول وسكنى المدينة إلا ولا ذمة ، مستبيحا لنفسه من المعاصي مستكثرا منها حتى بات قريبا من المجاهرة، إلى أن حصل معه في يوم من الأيام ما لم يكن ينتظره.
يروي الرجل قصته فيقول :
لست أدري حقيقة ما الذي يدفع إبني الوحيد مروان لأن يكون شديد الانفعال اليوم إلى مثل هذا الحد ، فأنا لم يسبق لي أن رأيته بمثل هذه الحالة قبل ذلك !!
على الرغم من أن هذا الولد النجيب قد ولد ومعه إعاقة دائمة، فهو لا يقدر على السمع أو الكلام ، إلا أنه قد وهب من الفطنة والذكاء وبعد النظر ما يفوق به الكثيرين من أقرانه، مع أنه لم يجاوز السابعة من عمره.
سر نجابته لا ترجع وحدها إلى ما وهبه الله من فطنة وذكاء وحسب ، بل تعود إلى جهود أمه الطيبة التقية النقية التي لم تقبل أبدا أن تكون إعاقته وعجزه سببا في أن تكون حياته تختلف عن الكثيرين من أبناء جيله، فراحت تبذل كل ما أوتيت من قوة وجهد، وتسخر ما حباها الله من علم وعطاء لتسهر على تعليم هذا الصبي وتثقيفه وتنشئته خير نشأة، فراحت تغرس في نفسه من غراس القرآن الكريم التي تحفظه هي عن ظهر قلب وتعيشه أناء الليل وأطراف النهار، وتعلمه من تعاليمه، وذلك في الوقت الذي كنت فيه أنا غارقا في لذائذ الدنيا لا أفرق فيها بين حلال أو حرام أو محظور أو مكروه، وأستبيح فوق ذلك لنفسي المعاصي كلها، حتى باتت أوامر الله تعالى ثقلا على نفسي لا أؤديها أو أؤدي بعضها إلا أقل من القليل وحتى الصلاة لم يكن أداؤها لو أديت بعضها إلا مراءاة وجاهرة ومسايرة للآخرين، فالمعصية كانت قد امتلكت علي ساعات يومي ، وصرت من طرفي أسابق اللذات والمعاصي حتى كدت أصل بها إلى درجة المجاهرة.
نظرات مروان والتفاتاته ومحاولاته المكرورة ذلك اليوم تصر أن تحمل تحت أجنحتها رسائل متوالية كان حريصا كل الحرص على إيصالها إلي! فراح يحاول بإشاراته ونظراته وبعض ما استطاع إخراجه من حروف أن ينبهني إلى أن الله سبحانه ينظر إلي ويراقبني، ويراني حين أترك الطاعة وأبادر المعصية بكل ما أوتيت من جهد وقوة، وراحت شاراته تحمل الكثير من اللوم والخوف بسبب الاستخفاف بالفروض والتهاون بأوامر الله سبحانه واستباحة ما نهى الله سبحانه عنه، والتي كانت لا تخفى عليه حيث كان يرقبني حين كنت أهيئ نفسي للخروج لبعض السهرات أو الاتصال ببعض أصدقاء السوء، وما كان الناظر ليشك لحظة في معنى شاراته وهمهماته ببعض الكلمات غير المفهومة ونظراته ، وبخاصة أنه كان يرفق بعدها بأن يمد يديه إلى السماء بين تذكيري برب السموات والأرض وبين الدعاء والرجاء والخوف .
عندما صارت انفعالات الطفل وإشاراته وإيحاءاته وهمهماته إلى دموع تسيل على وجنتيه، ومن ثم بكاء خالصا مصحوبا بمشاعر القلق والخوف، مما أثار في نفسي المزيد من الاهتمام والقلق، وبخاصة ذلك الإصرار منه إلا أن تكون رسالته قد وصلت إلي غير منقوصة. ثم إنه لم يلبث أن ذهب إلى حيث الماء فتوضأ وهو الذي لم يكن يحسن الوضوء بعد، ثم عاد إلي فصلى أمامي بعد أن أشار إلي أن أنتظر قليلا، ثم إنه ما إن سلم من صلاته حتى انطلق إلى المصحف فأتى به ووضعه أمامه وفتحه مرة واحدة من غير أن يقلب في أوراقه أو ينظر في ترتيب سوره وآياته ، مرة واحدة ووضع بعدها أصبعه مشيرا إلى آية ، ثم طلب مني أن أقرأها.
عندما وقعت عيناي على الآية الكريمة لم أكن لأصدق عيني ولم أكن قادرا في الوقت نفسه أن أكذب نفسي وما أرى ، فالطفل الذي لا يجيد تلاوة المصحف ولا يكاد يعرف شيئا عن الآيات وترتيبها ومكان تموضعها في السور بين دفتي المصحف، الطفل الأصم الأبكم ، تراه يفتح الكتاب مرة واحدة ولا يبحث ولا ينظر بل يفتح ويضع أصبعه فإذا بها آية من سورة مريم يقول الله جل وعلا فيها :
(( يا أبتِ إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ))
ثم إنه أجهش بعد ذلك بالبكاء والنحيب، فلم أتمالك نفسي من البكاء حتى غسلت الدموع وجنتي، ثم إنه قام ومسح الدموع عن وجهي وأخبرني بشاراته التي لم يعد يصعب علي فهم مقصدها حتى من قبل أن يكملها ألا أتهاون في أداء الصلاة قبل أن يعجلني الموت فأعذب بسبب تركي الفوض والواجبات .
قمت بعد ذلك على الفور فأضأت الأنوار جميعها في كل أرجاء المنزل وخوف شديد يسري في كياني ، وكأنني كنت غارقا في نوم عميق صحوت بعده على صوت شديد، وكنت لشدة دهشتي واستغرابي تأخذني الأفكار وتشدني معها وكنت شديد الاضطراب، ومروان يلاحقني في كل حركاتي وسكناتي، ويراقبني باستغراب وكأنه لم يكن ينتظر أن يترك فعله بالغ الأثر في نفسي من مثل الذي كان. ثم إنه طلب لي أن أترك الأنوار مضاءة في المنزل وأن أتوجه بصحبته نحو المسجد الكبير ويقصد به المسجد النبوي الشريف، وعندما اخبرته برغبتي بأداء الصلاة في المسجد المجاور أبى إلا الذهاب إلى الحرم النبوي الشريف، فاصطحبته إلى هناك وأنا أشعر أن كياني قد تزلزل إثر هذا الحادث العجيب.
دخلنا الروضة الشريفة وأقيمت صلاة العشاء فإذا بالإمام يقرأ قول الله تعالى:
(( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحدِ أبداً ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم )) فازداد بكائي ومروان أمامي كذلك يبكي لبكائي، ثم إنه أخرج منديله وراح يمسح دموعي، وأطلت الجلوس في الحرم ولم تفارق الدموع عيني لحظة وهو يحاول أن يخفف عني حتى إنه خشي علي من نفسي فطلب إلي أن نغادر .
عندما أخبر مروان أمه أنني صليت بصحبته في الحرم النبوي طارت من الفرحة لأنها على الرغم من كل ما كان مني لم تكن لتيأس لحظة في أن يمن الله علي بالعودة إلى صراطه المستقيم، ثم إنني أخبرتها بما حدث واستحلفتها أن تصدقني الأمر إن كانت هي التي أوعزت لمروان بأن يفتح المصحف ويشير إلى الآية التي فتح عليها من سورة مريم ، فأخبرتني وأقسمت أنها لم تطلب منه فعل شيء وأنه لا علم لها بالأمر ، ولم تكن دهشتها من فعل مروان أقل من دهشتي واستغرابي .
استغفرت الله من ذنوبي وعاهدته على اسبحانه على الاستقامة، ثم إنني هجرت رفقاء السوء من يومها، فانقلبت حياتي في المنزل إلى جنة وسعادة ووئام ، وكانت زوجتي هي أكثر الفرحين بأن من الله علي بالعودة إلى صراطه المستقيم، فلولا فضل الله علي وعليها وفضل عظيم جهودها في تربية وتنشئة مروان لما هيأه الله ليحرص على ديني ويخاف علي من سوء العاقبة والمنقلب.
منذر فاكهاني- عضو جديد
-
رقم العضوية : 14
عدد المساهمات : 23
تاريخ التسجيل : 10/02/2010
رد: زينة الحياة الدنيا : قصة قصيرة
لله درك أخي الكريم الأستاذ
منذر فاكهاني
قصة ولا أروع تحمل في ثناياها من الموعظة ما يرقق القلوب
فطوبى لرجل عرف طريقه إلى الله واسترجع وتاب
وطوبى لذلك الطفل الذي كان سبيله إلى النجاة من الضياع
قرأتها فاقشعر كل بدني ولم يزايلني التأثر بما قرأت
بارك الله في موهبتك الخصبة المتدفقة وبورك القلم والمداد
مع خالص احترامي وتقديري
ودمت بكل الود والألق
آمال
منذر فاكهاني
قصة ولا أروع تحمل في ثناياها من الموعظة ما يرقق القلوب
فطوبى لرجل عرف طريقه إلى الله واسترجع وتاب
وطوبى لذلك الطفل الذي كان سبيله إلى النجاة من الضياع
قرأتها فاقشعر كل بدني ولم يزايلني التأثر بما قرأت
بارك الله في موهبتك الخصبة المتدفقة وبورك القلم والمداد
مع خالص احترامي وتقديري
ودمت بكل الود والألق
آمال
مواضيع مماثلة
» قصص قصيرة -- نجيب محفوظ
» علمتني الحياة
» ماذا علمتكم الحياة ؟!
» فيروسات الحياة الزوجية
» الشاعر محمود درويش : على هذه الأرض ما يستحق الحياة
» علمتني الحياة
» ماذا علمتكم الحياة ؟!
» فيروسات الحياة الزوجية
» الشاعر محمود درويش : على هذه الأرض ما يستحق الحياة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى